هل الفيلم الوثائقي العربي قادر على الاستقصاء؟
تحت شعار "نوافذ.. من أجل عيش مشترك" نظمت الجمعية المغربية للدراسات الإعلامية والأفلام الوثائقية الدورة الخامسة من مهرجان "أوروبا-الشرق للفيلم الوثائقي" في مدينة طنجة بالمغرب لمدة أربعة أيام.
وشارك على لائحة المسابقة الرسمية عشرة أفلام وثائقية عربية وأجنبية، وهي: "العدوّ الخفي" للمغربي رشيد قاسمي، "اصطياد أشباح" لرائد أنضوني من فلسطين، "دماء على نهر السين" للمغربي المهدي بكار، " les fleurs du bitume " لكارين موراليس وكارولين بيركارد من فرنسا، "الأرز والصلب" لفاليري فانسون من لبنان، "bons baisers de moruroa" للجزائري العربي بن شيحا، "لا مكان للاختباء" للعراقي أحمد زرداشت، "district zero" لبابلو توسكو وبابلو أرابورب وجورجي فرنانديز مايورال من إسبانيا، "الانتظار" للسويدي إيميل لاغبال، "عندما يجتمع الرومي مع فرنسيس" للمخرج محمد قناوي من إيطاليا.
وترأست لجنة تحكيم المسابقة الرسمية المخرجة الفلسطينية الفرنسية ماريز غرغور إلى جانب جمال دلالي من تونس، وروبيرت هوف من هولندا، ورادا سيزيك من البوسنة والهرسك، ثم المخرج المغربي إدريس المريني.
جاء مهرجان هذا العام (أيلول/ سبتمبر 2017) تحت شعار "نوافذ من أجل عيش مشترك" دلالةً على الرسائل السياسية والثقافية التي يحملها تجاه الانفتاح، وتعزيزاً لمفهوم المشترك وتحويل الاختلاف إلى ما هو فنّي، ولطالما في هذا السياق اعتبرت طنجة مدينة منفتحة، كوزموبوليتية، وذات ثقافات متعددة انطلاقاً من موقعها الجغرافي وتاريخها.
وقال مدير المهرجان صهيب الوسني لموقع "قنطرة": "الشعار ليس بعيداً عن ثيمة المهرجان الأساسية "أوروبا- الشرق"، يعالج قضايا أوروبية من منظور شرقي والعكس. كما أنّ نوافذ مستمدة من فلسفة الانفتاح، حيث يلعب المهرجان دور القنطرة بين الشرق وأوروبا لفتح نوافذهما تجاه بعضهما".
اعتمدت لجنة الاختيار أربعة معايير في ترشيح الأفلام: أربعة أفلام أوروبية وأربعة عربية وفيلمان مغربيان من بلدان متنوعة، وأفلام قوية المضمون ومؤهلة للترشح.
يقول الوسني: "لا نجد إشكالية في اختيار الأفلام الأوروبية الممولة وذات الإنتاج الجيد، لكنّنا نبحث مطولاً في الأفلام المرشحة من بلدان عربية أو شرقية، ويُفضل أن تعالج مشكلة أو قضية راهنة كالإرهاب أو الصراعات بشكل جزئي أو كُلّي، وتلعب دوراً في استعادة الماضي والتصالح معه انطلاقاً نحو المستقبل".
انتقل المهرجان منذ دورته الرابعة من مدينة أصيلة إلى طنجة "مُركَّب بوكماخ الثقافي" بحثاً عن فرصة للانخراط بالحالة الثقافية والاقتصادية التي تشهدها طنجة مؤخراً، ولاستقطاب مزيداً من الجمهور خاصة الشباب.
في هذا السياق نظّمت خمس ورشات، ورشة السيناريو وورشة مختبر الوثائقي (دوك لاب)، وورشة الطفل المبدع لأطفال من مدارس طنجة وأصيلة ينتجون فيها فيلماً، إضافة لورشة "المنصات الرقمية والتوثيق الإعلامي" بالشراكة مع مركز الجزيرة للإعلام إضافة الى ورشة الكتابة "حروف على ألوان".
في الفعاليات الجانبية، أقيمت ثلاثة معارض توثيقية، معرض لأول إصدارات الصحف الورقية بالمغرب احتوى على نحو 70 لوحة لإصدارات الجرائد بالمغرب ما بين 1906 و1956 باللغات العربية والإسبانية والإيطالية والفرنسية.
المعرض الثاني للفنانة التشكيلية المقيمة بفرنسا رحمة عزوز صاحبة لوحات السرد عن الجرح الأصل والتمزق عبر محطات التاريخ والهجرة القسرية، ومعرض خاص للسيارات القديمة.
لا يقتصر المهرجان على عروض الأفلام بقدر إتاحة الوقت لمناقشتها بعد العرض، فضلاً عن تنظيم ندوات فكرية تتناول القضايا العالقة حول الفيلم الوثائقي العربي، منها "الفيلم الوثائقي من التراث الشفهي إلى الصورة الموثقة- التراث الصحراوي نموذجاً، ناقش فيها المحاضرون أهمية الثقافة الشفهية في التربية والتعليم وتمردها على المقدس وخضوعها للمساءلة بدلاً من البروباغندا، كتلك التجارب السينمائية التي تطرقت للثقافة "الحَسَّانية" بشكل مباشر أو على طريقة "الريبورتاج" بحيث غلبت على الطابع الفني فيها.
كما بحثت ندوة "أي دور للصحافة الاستقصائية في تطوير الفيلم الوثائقي" بدعم من قناة "دويتشه فيله" عن العلاقة بين ما هو استقصائي وما هو وثائقي-فني، وقدرة الوثائقي على معالجة الخلل المجتمعي وبرهنة الشكوك، كما تطرقت للعراقيل التي يواجهها الفيلم الوثائقي العربي من صعوبة في الوصول للمعلومة والتعامل مع المصدر مع إخفاء هويته، والأرشيف.
يضاف للندوات أيضاً ندوة بعنوان "التدوين المرئي من الحكاية إلى التوثيق".
غياب الرفاهية...غياب الفيلم الاستقصائي
هل الفيلم الوثائقي العربي قادر على الاستقصاء؟ يجيب منتصر مرعي، مدير التطوير الإعلامي في معهد الجزيرة للإعلام، لموقع "قنطرة" بأنّ "المنتج أو مخرج الأفلام في العالم العربي لا يتوفر على الرفاهية التي تمكِّنه من القيام بالاستقصاء والبحث الكافي قبل بناء الفيلم. وجود ميزانية مناسبة عامل مهم تتيح للمنتج أو المخرج أن يعطي وقتا أطول وجهدا أكبر في البحث والاستقصاء. عندما تتوفر ميزانية محدودة لفيلم ما فإنها غالبا ما يُنفَق الجزء الأكبر منها على عملية الإنتاج (التصوير والمونتاج)".
ويضيف: "نحن في العالم العربي مشغولون بالتقنيات والإبهار البصري عن المعلومات المهمة وسرد القصص في الأفلام الوثائقية. على سبيل المثال لا الحصر، أفلام اصطياد الأشباح للمخرج الفلسطيني رائد أندوني وفيلم "قبلات جيدة لمورورا" للجزائري العربي بن شيحا و"دماء على نهر السين" للمغربي مهدي بكار تضمنت جهداً واضحاً في جمع المعلومات من أفواه الشهود ومن الوثائق التاريخية، وتوظيفيها في الفيلم".
ويقول مرعي فيما يتعلّق بالتحديات إن "بعضها متشابه وبعضها مختلف"، ويظلّ الدعم المالي -بحسب قوله- يشكلّ أكبر تحدٍ للمنتج أو المخرج في العالم العربي. صناعة الوثائقي تحتاج أيضا إلى جمهور ومنصات للعرض وقنوات تلفزيونية تبحث عن هذا الفيلم، كما أنّ الجمهور تراجع عن مشاهدة الأفلام الوثائقية خاصة مع انتشار المنصات الرقمية، وخضوع الفيلم لقواعد العرض والطلب.
لاحقت معظم الأفلام المشاركة قضايا عالقة، حاول خلالها المخرجون إعادة الاشتغال عليها، محاورتها ومعالجتها أو التصالح معها.
في "اصطياد الأشباح" للفلسطيني رائد أنضوني الذي نال جائزة السيناريو، يعمل المخرج مع مجموعة من الأسرى الفلسطينيين السابقين من أجل إعادة بناء مركز التحقيق الإسرائيلي الذي سجنوا فيه معاً، لم يكن أحد يعرف ما يبدو عليه المكان حيث كانوا معصوبي الأعين على الدوام، لكنّ الفيلم يتناول بعداً نفسياً لشبح الأسر الذي ما زالوا يعايشونه بعد سنوات طويلة من إطلاق سراحهم.
أما "الانتظار" الذي حاز على جائزة ابن بطوطة الكبرى للمهرجان، يُصوّر المخرج السويدي إيميل لاغبال قصة فتاة أفغانية وأسرتها التي ما زالت تنتظر الإجابة على طلب اللجوء رغم مرور ست سنوات.
في السياق ذاته جاء فيلم "ديستركت زيرو"، للإسبانيين بابلو توسكو وبابلو أرابورب وجورجي فرنانديز مايورال، يوثق الحياة اليومية لمتجر صغير لبيع الهواتف الجوّالة في أحد أكبر مخيمات اللاجئين في العالم من خلال التساؤل حول " ما يمكن للهاتف أن يكشفه لنا من عوالم اللاجئين؟" الهاتف يحتوي على أدلة لذكريات لاجئ وماضيه وقائمة معارفه من عالم هرب منه.
فيلم "العدوّ الخفي" للمغربي رشيد قاسمي يحاول الإجابة عن دوافع الشباب المغاربة إلى التطرف الديني، ويتتبع المخرج في فيلمه شخصيات مغربية -مثل الشيخ السلفي عبد الكريم الشاذلي، والباحثة في الفكر الإسلامي أسماء المرابط، والمدرب الرياضي عزيز باغوغ الذي درّب أحد منفذي هجمات الدار البيضاء- للتنقيب أكثر حول هذه الأسباب.
أمّا فيلم "دماء على نهر السين" للمغربي مهدي بكّار، الفائز بجائزة "الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة"، فينبش في مجزرة باريس التي وقعت عام 1961 ونفذتها الشرطة الفرنسية ضد مئات من المدنيين الجزائريين العزل، وتناول تفاصيل مهمة من خلال شهادات ضيوف عاشوا وشهدوا المجزرة.
في البقعة الجغرافية ذاتها، فرنسا، أجرت الأخيرة 193 تجربة نووية في بولينيزيا بين عامَيْ 1966 و 1996. وخلال هذا الوقت، عاش موظفون وعسكريون من البرّ الرئيسي الفرنسي وبولينيزيا على الجزر المرجانية، وبعد سنوات أصيب بعضهم بسرطانات متكررة.
على الرغم من إنكار الجيش لذلك، ظلّ العلماء على يقين من أن قربهم من الانفجارات هو سبب مرضهم. هذا ما يستعرضه فيلم "قُبلة جيدة من مورورا" للجزائري العربي بن شيحا، إضافة إلى التشوهات الوراثية المنقولة بسبب الإشعاعات.
فيلم "زهور من البيتومين" الحائز على جائزة التفرد يُصوّر حياة ثلاث فتيات، شيماء وأميمة وشمس، لا يعرفن بعضهنّ ولكنهنّ من نفس الجيل وولدن في زمن ديكتاتورية بن علي. هُنّ مراهقات من ثورة الياسمين (2011) ويجسدن الفوارق الدقيقة والمعارضة أحياناً والمكملة دائما لصراع مشترك حول حرية المرأة في بلدها.
في دائرة الصراع يأتي فيلم "لا مكان للاختباء" ويعرض قصة الممرض نوري شريف خلال خمس سنوات من التغيير الجذري، الذي يعمل بمنطقة "مثلث الموت" وسط العراق، ويقوم بتصوير قصص الناجين وأملهم في مستقبل أفضل مع انسحاب القوات الأمريكية وقوات التحالف من العراق في عام 2011، لكنّ النزاعات تستمر مع الميليشيات العراقية، و يغادر السكان مع معظم موظفي المستشفى تلك المنطقة.
أمّا فيلم "الأَرْز والصلب" لمخرجته فاليري فانسون من لبنان فيتحدث عن قصة مدينة تعيش حالة تحطيم لذاكرتها المكانية- التقليدية. تلجأ المخرجة إلى قلب بيروت، بالتحديد إلى مبنى قديم على الطراز الاستعماري، يعيش أهله فيه مثل عائلة كبيرة، يتبادلون قهوة الصباح وإقامة الحفلات وسط أبراج فاخرة تغزو المدينة وتظلل أفق السماء.
فانسون تَتَتَبَّع عملية هدم المباني التقليدية شبه اليومية حتى يتم بيع ذاكرة بيروت لأفضل مشترٍ، فـفيلم "الأرز والصلب" هو رحلة إلى بلد الأرز المهدد بالانقراض، إلى نضال الناس من أجل الحفاظ على هويتهم.
أما فيلم "رومي يلتقي بفرانسيس" فهو قصة لبيمان تادايون موسيقيّ إيراني مستقر بإيطاليا يستغلّ قوته ومعارفه من أجل إيجاد حلول لمشاكله بإثارة شخصيات تاريخية من القرن الثالث عشر، يتذكر قصائد للشاعر الصوفي جلال الدين الرومي وشاعر المسيحيةالقديس فرنسيس الأسيزي من أجل كتابة وتأليف موسيقى تسمح لهم باللقاء بنفس العمل، وارتأت لجنة التحكيم أن تمنحه تنويهاً خاصاً.
يعتمد الفيلم الوثائقي على قصة وشخصيات حقيقية، لكنّه ينطوي على وجهة نظر المخرج في كيفية تقديم الحقائق للجمهور. وقد يتناول البعض موضوعي الهجرة والإرهاب كظواهر كما هي، والبعض الآخر يحاول الوقوف على جذور المشكلتين والأسباب، لكنَّ مرعي يعتقد أنّ "مظلة مهرجان أوروبا الشرق يؤمن ببناء الجسور وليس بحفر الخنادق، وبتقريب وجهات النظر والتأكيد على إعادة تعريف الإرهاب دون إدانته في مكان وتجاهله في مكان آخر، وأيضا عدم إدانته دون النظر في جذوره والمسؤول عنها".
حقوق النشر: موقع قنطرة 2017